الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} قوله عز وجل: {ولقد مكناكم في الأرض} يعني ولقد مكناكم أيها الناس في الأرض، والمراد من التمكين التمليك وقيل: معناه جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً أو قدرناكم على التصرف فيها {وجعلنا لكم فيها معايش} جمع معيشة يعني به جمع وجوه المنافع التي تحصل بها الأرزاق وتعيشون بها أيام حياتكم وهي على قسمين: أحدهما: ما أنعم الله تعالى به على عباده من الزرع والثمار وأنواع المآكل والمشارب. والثاني: ما يتحصل من المكاسب والأرباح في أنواع التجارات والصنائع وكلا مقسمين في الحقيقة إنما يحصل بفضل الله وإنعامه وإقداره وتمكينه لعباده من ذلك فثبت بذلك أن جميع معايش العالم إنعام من الله تعالى على عباده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بين تعالى أنه مع هذا الإفضال على عباده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال تعالى: {قليلاً ما تشكرون} يعني: على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم، وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأن الإنسان قد يذكر نعم الله فيشكره عليها فلا يخلو في بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر، تصور النعمة وإظهار ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها. قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} يعني: ولقد خلقناكم أيها الناس المخاطبون بهذا الخطاب وقت نزوله في ظهر أبيكم آدم ثم صورناكم في أرحام النساء صوراً مخلوقة. فإن قلت على هذا التفسير يكون قوله {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} يقتضي الأمر بالسجود كان وقع بعد خلق المخاطبين بهذا الخطاب وتصويرهم لأن كلمة ثم للتراخي ومعلوم أن الأمر ليس كذلك بل كان السجود لآدم عليه الصلاة والسلام قبل خلق ذريته؟ قلت: يحتمل أن يكون المعنى ولقد خلقناكم ثم صورناكم أيها المخاطبون ثم أخبرناكم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فتكون كلمة ثم تفيد ترتيب خبر على خبر ولا تفيد ترتيب المخبر به على الخبر. وقيل في معنى الآية: ولقد خلقناكم يعني آدم، ثم صورناكم يعني ذريته، وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني في ظهره وعلى هذين القولين إنما ذكر آدم بلفظ الجمع على التعظيم أو لأنه أبو البشر فكانه في خلقه خلق من خرج من صلبه؛ وقيل: إن الخلق والتصوير يرجع إلى آدم عليه الصلاة والسلام وحده. والمعنى: ولقد خلقناكم يعني آدم حكمنا بخلقه ثم صورناكم يعني آدم صورة من طين {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} يعني بعد إكمال خلقه وقد تقدم في سورة البقرة الكلام في معنى هذا السجود وأنه كان على سبيل التحية والتعظيم لآدم لا حقيقة السجود، وقيل: بل كان حقيقة السجود وأن المسجود له هو الله تعالى وإنما كان آدم كالقبلة للساجدين، وقيل: بل كان المسجود له وكان ذلك بأمر الله تعالى وهل كان هذا الأمر بالسجود لجميع الملائكة أو لبعضهم فيه خلاف تقدم ذكره في سورة البقرة. وقوله تعالى: {فسجدوا} يعني الملائكة {إلا إبليس} يعني: فسجد الملائكة لآدم إلا إبليس {لم يكن من الساجدين} يعني له وظاهر الآية يدل على أن إبليس كان من الملائكة لأن الله تعالى استثناه منهم وكان الحسن يقول: إن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور وإنما استثناه من الملائكة لأنه كان مأموراً بالسجود لآدم مع الملائكة فلما لم يسجد أخبر الله تعالى عنه أنه لم يكن من الساجدين لآدم فلهذا استثناه منهم. قوله تعالى: {قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} يعني: قال الله عز وجل لإبليس أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك به فعلى هذا التأويل تكون كلمة لا في قوله أن لا تسجد صلة زائدة وإنما دخلت للتوكيد والتقدير ما منعك أن تسجد فهو كقوله: {لا أقسم} وقوله {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} أي يرجعون وقوله {لئلا يعلم أهل الكتاب} أي يعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين. وقيل: إن كلمة لا هنا على أصلها مفيدة وليست بزائدة لأنه لا يجوز أن يقال إن كلمة من كتاب الله زائدة أو لا معنى لها، وعلى هذا القول حكى الواحدي عن أحمد بن يحيى: أن لا في هذه الآية ليست زائدة ولا توكيداً لأن معنى قوله {ما منعك أن لا تسجد} من قال لك لا تسجد فحمل نظم الكلام على معناه وهذا القول حكاه أبو بكر عن الفراء. وقال الطبري والصواب في ذلك أن يقال إن في الكلام محذوفاً تقديره ما منعك من السجود فأحوجك إن لا تسجد فترك ذكر ذلك أحوجك استغناء عنه بمعرفة السامعين به ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القاضي قال: ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة الله تعالى عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها. فإن قلت: لم سأله عن المانع له من السجود وهو أعلم به؟ قلت: إنما سأله للتوبيخ والتقريع له ولإظهار معاندته وكفره وافتخاره بأصله وحسده لآدم عليه الصلاة والسلام ولذلك لم يت الله عليه {قال} يعني قال إبليس مجيباً لله تعالى عما سأله عنه {أنا خير منه}. فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا وكذا ولكنه قال أنا خير منه. قلت: استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وفيها دليل على موضع الجواب وهو قوله {خلقتني من نار وخلقته من طين} والنار خير من الطين وأنور وإنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة وأفضل منه أصلاً وذلك لفضل الجنس الذي خلق منه وهو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فجهل عدو الله وجه الحق وأخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من الله تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة والسلام والاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب والهلاك ومن المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياة والتثبت وهذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة والسلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من الله تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة، ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان: أول من قاس إبليس فأخطأ وقال ابن سيرين أيضاً: ما عبدت الشمس والقمر لا بالمقاييس وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه الله تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين وأقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يدر أن الفضل لمن جعله الله فاضلاً وأن الأفضلية والخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضاً الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة وقبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فالله تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة والسلام بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك ما خص الله تعالى به آدم عليه الصلاة والسلام للعناية التي سبقت له في القدم وأورث إبليس كبره اللعنةَ والطردَ للشقاوة التي سبقت له في القدم.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} وقوله تعالى: {قال فاهبط منها} يعني قال الله تعالى لإبليس لعنه الله اهبط من الجنة. وقيل: من السماء إلى الأرض. والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سيل القهر والهوان والاستخفاف {فما يكون لك أن تتكبر فيها} يعني فليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري وطاعتي لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو في السماء متكبر مخالف لأمر الله عز وجل فأما غير الجنة والسماء فقد يسكنها المستكبر عن طاعة الله تعالى وهم الكفار الساكنون في الأرض {فاخرج إنك من الصاغرين} يعني: إنك من الأذلاء المهانين والصّغار الذل والمهانة. قال الزجاج: استكبر عدو الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة. وقيل: كان له ملك الأرض فأخرجه الله تعالى منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفاً كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروع فيها حتى يخرج منها {قال} يعني: قال إبليس عند ذلك {أنظرني} يعني أخِّرني وأمهلني فلا تمتني {إلى يوم يبعثون} يعني من قبورهم وهي النفخة الآخرة عند قيام الساعة وهذا من جهالة الخبيث إبليس لعنه الله لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله تعالى إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يكون ذائقاً للموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل به {قال} الله تعالى {إنك من المنظرين} يعني من المؤخرين الممهلين وقد بين الله تعالى مدة النظرة والمهلة في سورة الحجر فقال تعالى: {فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} وذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم. فإن قلت: فما وجه قولك إنك من المنظرين وليس أحد ينظر سواه؟ قلت: معناه إن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم {قال} يعني إبليس {فبما أغويتني} يعني فبأي شيء أضللتني فعلى هذا تكون ما استفهامية وتم الكلام عند قوله أغويتني ثم ابتدأ فقال {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} وقيل: هي باء القسم تقديره فبإغوائك إياي وقيل معناه فيما أوقعت في قلبي الغي الذي كان سبب هبوطي إلى الأرض من السماء وأضللتني عن الهدى لأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني لأجلسن على طريقك القويم وهو طريق الإسلام. وقيل المراد بالصراط المستقيم الطريق الذي يسلكونه إلى الجنة وذلك بأن أوسوس إليهم وأزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم. وقيل: المراد بالصراط المستقيم هنا طريق مكة يعني يمنعهم من الهجرة. وقيل: المراد به الحج. والقول الأول أولى لأنه يعم الجميع ومعنى لأردنَّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنَّهُم كما أضللتني. عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة قعد له في طريق الإسلام فقال تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجر فقال تهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاة فهاجر وقعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد قال فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقاً على الهل أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة» أخرجه النسائي، وقوله تعالى إخباراً عن إبليس {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} قال ابن عباس: من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيهم، ومن خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها، وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي. وإنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها وصائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم. وقال ابن عباس في رواية عنه: من بين أيديهم يعني من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم، ومن خلفهم من قبل الآخرة، فأقول لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم وإنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يعسى فيها ويشاهدها فهي حاضرة بين يديه والآخرة غائبة عنه فهي خلفه. وقال الحكم بن عتبة: من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها وعن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها. أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى. وقال مجاهد يأيتهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون. ومعنى هذا من حيث يخطئون ويعلمون أنهم يخطئون ومن حيث لا يبصرون أنهم يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون، وقيل: من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمالهم فلا يقدمون فيه طاعة ومن خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشركون ومن خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه. وقال شقيق البلخي: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما بين يدي فيقول: لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ والعاقبة للمتقين، وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وحيل بينهم وبين ما يشتهون. وقيل إن ذكر هذه الجهات الرضع إنما أريد بها التأكيد والمبالغة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك، ومعنى الآية على هذا القول: ثم لآتينهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات وقوله {ولا تجد أكثرهم شاكرين} يعني ولا تجد يا رب أكثرهم بني آدم شاكرين على نعمك التي أنعمت بها عليهم. وقال ابن عباس: معناه ولا تجد أكثرهم موحدين. فإن قلت: كيف علم الخبيث إبليس حتى قال ولا تجد أكثرهم شاكرين؟ قلت: قاله ظناً فأصاب منه قوله تعالى، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل إنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين القبائح وعلم ميل بني آدم إلى ذلك فقال هذه المقالة وقيل إنه رآه مكتوباً في اللوح المحفوظ فقال هذه المقالة على سبيل اليقين والقطع والله أعلم بمراده.
{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)} قوله عز وجل: {قال اخرج منها} أي: قال الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه وأبعده عن جنابه وذلك بسبب مخالفته وعصيانه اخرج منها يعني من الجنة فإنه لا ينبغي أن يسكن فيها العصاة {مذؤوماً} يعني معيباً والذأم أشد العيب {مدحوراً} يعني مطروداً مبعداً. وقال ابن عباس: صغيراً ممقوتاً. وقال قتادة: لعيناً مقيتاً وقال الكلبي: ملوماً مقصياً من الجنة ومن كل خير {لمن تبعك منهم} يعني من بني آدم {لأملان جهنم منكم أجمعين} اللام لام القسم أقسم الله تعالى أن من اتبع إبليس من بني آدم وأطاعه منهم. وقوله تعالى: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} أي وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة {فكُلا من حيث شئتما} يعني فكُلا من ثمار الجنة من أي مكان شئتما. فإن قلت: قال في سورة البقرة وكلا بالواو وقال هنا فكلا بالفاء فما الفرق؟ قلت: قال الإمام فخر الدين الرازي إن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} تقدم في سورة البقرة الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى. قوله تعالى: {فوسوس لهما الشيطان} يعني فوسوس إليهما والوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، يقال: وسوس إذا تكلم كلاماً خفيفاً مكرراً وأصله من صوت الحلي ومعنى وسوس لهما فعلَ الوسوسة وألقاها إليهما. فإن قلت: كيف وسوس إليهما وآدم وحواء في الجنة وإبليس قد أُخرج منها؟ قلت: ذكر الإمام فخر الدين الرازي في الجواب عن السؤال عن الحسن أنه قال: كان يوسوس في الأرض إلى السماء إلى الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له. قوله وقال أبو مسلم الأصبهاني: بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية فدخلت به الحية إلى الجنة فقصه مشهورة ركيكة، وقال آخرون: إن آدم وحواء ربما قربا من باب الجنة وكان إبليس واقفاً من خارج الجنة على بابها فقرب أحدهما من الآخر فحصلت الوسوسة هناك. فإن قلت: إن آدم عليه الصلاة والسلام قد عرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله؟ قلت: يحتمل أن يقال إن إبليس لقي آدم مراراً كثيرة ورغبه في أكل هذه الشجرة بطرق كثيرة منها رجاء نيل الخلد ومنها قوله وقاسمهما {إني لكما من الناصحين} فلأجل هذه المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلام إبليس في آدم حتى أكل من الشجرة {ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما} يعني ليظهر لهم ما غطى وستر عوراتهما وقوله ما ووري مأخوذ من المواراة وهي الستر يقال واريته بمعنى سترته والسوأة فرج الرجل والمرأة سمي بذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات واللام في قوله ليبدي هلما لام العاقبة وذلك لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عوراتهما وإنما كان حملهما على المعصية فقط فكان عاقبة أمرهما أن بدت عوراتهما {وقال} يعني وقال إبليس لآدم وحواء {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة} يعني عن الأكل من هذه الشجرة {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} يعني إنما نهاكما عن هذه الشجرة لكي لا تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر أو تكونا من الباقين الذين لا يموتون وإنما أطمع إبليس آدم بهذه الآية لأنه علم أن الملائكة لهم المنزلة والقرب من العرش فاستشرف لذلك آدم وأحب أن يعيش مع الملائكة لطول أعمارهم أو يكون من الخالدين الذين لا يموتون أبداً. فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن الملَك أفضل من الأنبياء لأن آدم عليه الصلاة والسلام طلب أن يكون من الملائكة وهذا يدل على فضلهم عليه. قلت: ليس في ظاهر الآية ما يدل على ذلك لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما طلب أن يكون من الملائكة كان ذلك الطلب قبل أن يتشرف بالنبوة وكانت هذه الواقعة قبل نبوة آدم عليه الصلاة والسلام فطلب أن يكون من الملائكة أو من الخالدين وعلى تقديره أن تكون هذه الواقعة في زمان النبوة بعد أن شرف بها آدم إنما طلب أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل لأنه طلب إما أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم أو من الخالدين الذين لا يموتون أبداً.
{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} وقوله تعالى: {وقاسمهما} أي وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد {إني لكما لَمن الناصحين} قال قتادة: حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما وقد يُخدع المؤمن بالله فقال إني خُلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما وقال بعض العلماء: من خادعنا بالله خدعنا له {فدلاهما بغرور} يعني فخدعهما بغرور يقال من زال فلان يدلي فلاناً بغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف من القول الباطل. قال الأزهري وأصله ان الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش وهو أن إبليس حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى أسفل. ومعنى الآية أن إبليس لعنه الله تعالى غر آدم باليمين الكاذبة وكان آدم عليه الصلاة والسلام يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً وإبليس أول من حلف بالله كاذباً فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به {فلما ذاقا الشجرة} يعني: طعما من ثمرة الشجرة وفيها دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصد إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير {بدت لهما سوءاتهما} يعني: ظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس رضي الله عنهما: قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة والعقوبة أن ظهرت وبدت لهما سوآتهما وتهافت عنهما لبسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك. وقال وهب: كان لباسهما من النور لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوآتهما وقال قتادة: كان لباس آدم في الجنة ظفراً كله فلما وقع في الذنب قشط عنه وبدت سوأته {وطفقا} يعني وأقبلا وجعلا {يخصفان عليهما من ورق الجنة} يعني أنهما لما بدت لهما سوآتهما جعلا يرقعان ويلزقان عليهما من ورق الجنة وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. وقال الزجاج: جعلا ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما وفي الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبيح كشفها. روى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كان آدم صلى الله عليه وسلم رجلاً طويلاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت ل سوأته وكان لا يراها في الجنة فانطلق فارّاً فعرضت له شجرة من شجرة الجنة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني قالت لست بمرسلتك فناداه ربه يا آدم أمنّي تفر قال لا يا رب ولكني استحييتك» ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري من طريقين موقوفاً ومرفوعاً. قوله تعالى: {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} يعني أن الله تعالى نادى آدم وحواء وخاطبهما فقال: ألم أنهكما عن أكل ثمرة هذه الشجرة {وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} يعني أعلمكما أن الشيطان قد بانت عداوته لكما بترك السجود حسداً وبغياً. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال فأني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً قال فرنت حواء عند ذلك رنة فقيل لها الرنة عليك وعلى بناتك وقال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال أطعمتني حواء فقال لحواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية فقال للحية لم أمرتها قالت أمرني إبليس قال الله تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر وأما أنت يا حية فأنطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك وأما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور يعني عن الرحمة. وقيل ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك جنتي في جواري.
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} قوله عز وجل: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} وهذا خبر من الله عز وجل عن آدم عليه الصلاة والسلام وحواء عليها السلام واعترافهما على أنفسهما بالذنب والندم على ذلك والمعنى: قالا يا ربنا إنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك ما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها {وإن لم تغفر لنا} يعني وأنت يا ربنا إن لم تستر علينا ذنبنا {وترحمنا} يعني وتتفضل علينا برحمتك {لنكونن من الخاسرين} يعني من الهالكين. قال قتادة: قال آدم يا رب أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك، قال: إذاً أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله أن ينظره فأعطى كل واحد مهما ما سأل وقال الضحاك في قوله {ربنا ظلمنا أنفسنا} قال: هي الكلمات التي تلقّاها آدم عليه الصلاة والسلام من ربه عز وجل. (فصل) وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية وأجيب عنه بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الرقعة والعلو والمعرفة بالله عز وجل مما حملهم على الخوف منه والإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخَذ به غيرهم وأنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل والسهو فهم بسبب ذلك خائفون وجِلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم وسيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم، مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله عز وجل، ذنوباً وهي حسنات بالنسبة إلى غيرهم كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني أنهم يرونها بالنسبة إلى أحوالهم كالسيئات وهي حسنات لغيرهم. وقد تقدم في سورة البقرة أن أكل آدم من الشجرة هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ والخلاف فيه فأغنى عنه الإعادة والله أعلم. قوله تعالى: {قال اهبطوا} قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: إن الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة. وقال الطبري: قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس والحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السدي رحمه الله: قوله تعالى: {اهبطوا} يعني إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية {بعضكم لبعض عدو} يعني أن العداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس {ولكم في الأرض مستقر} يعني موضع قرار تستقرون فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر} يعني القبور {ومتاع إلى حين} يعني ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجلكم ومعنى الآية أن الله عز وجل أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {ومتاع إلى حين} يعني إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا {قال فيها تحيون} يعني: قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم {وفيها تموتون} يعني: وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم {ومنها تخرجون} يعني: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة. قوله عز وجل: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم} اعلم أن الله عز وجل لما أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعلها مستقراً لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين والدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة وسترها شرط في صحة الصلاة وأما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر والبرد فامتنّ الله على عباده بأن أنزل عليهم لباساً يواري سوءاتهم فقال تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم} يعني لباساً تسترون به عوراتكم. فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباساً. قلت ذكر العلماء فيه وجوهاً أحدهما: أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباساً أو بمعنى رزقناكم لباساً. الوجه الثاني: أن الله تعالى أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم. الوجه الثالث: أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى: وأنزلنا الحديد {وريشاً} الريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى وأنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى {لتركبوها وزينة} وقال {ولكم فيها جمال} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال» واختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي الله عنهما وريشاً يعني مالاً، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي لأن المال مما يتزين به، ويقال: تريش الرجل إذا تمّول. وقال ابن زيد: الريش الجمال وهو يرجع إلى الزينة أيضاً، وقيل: إن الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يبلس أو يفرش والريش أيضاً المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب وقيل الريش والرياش يستعمل أيضاً في الخصب ورفاهية العيش {ولباس التقوى} اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس وحقيقته، ومنهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضاً في معناه، فقال ابن الأنباري: لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخباراً أنّ ستر العورة من التقوى وذلك خير. وقيل: إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواب بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى وذلك خير. وقال زيد بن علي رحمه الله تعالى: لباس التقوى آلآت الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع والمغفر ونحو ذلك. وقيل لباس التقوى هو الصوف والخشن من الثياب التي يبلسها أهل الزهد والورع. وقيل: هو ستر العورة في الصلاة وأما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه. فقال قتادة والسدي: لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لباس التقوى هو العمل الصالح، وقال الحسن رضي الله عنه: هو الحياء لأنه يحث على التقوى. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لباس التقوى هو السمت الحسن، وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه: لباس التقوى خشية الله، وقال الكلبي: هو العفاف فعلى هذه الأقوال: إن بلاس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق الله له من لباس التجمل وزينة الدنيا وهو قوله تعالى: {ذلك خير} يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال والزينة وأنشدوا في المعنى: إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى *** عريت وإن وارى القميصَ قميصُ وقوله تعالى: {ذلك من آيات الله} يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات الله الدالة على معرفته وتوحيده {لعلهم يذكرون} يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها.
{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} قيل: هذا خطاب للذين كانوا يطوفون بالبيت عراة والمعنى: لا يخدعنكم بغروره ولا يضلنكم فيزين لكم كشف عوراتكم في الطواف وإنما ذكر قصة آدم هنا وشدة عداوة إبليس له ليحذر بذلك أولاد آدم فقال تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} يعني آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام والمعنى أن من قدر على إخراج أبويكم من الجنة بوسوسته وشدة عداوته فبأن يقدر على فتنتكم بطريق الأولى فحذر الله عز وجل بني آدم وأمرهم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان وغروره وتزيينه القبائح وتحسينه الأفعال الرديئة في قلوب بني آدم فهذه فتنته التي نهى الله تعالى عباده عنها وحذرهم منها. قوله تعالى: {ينزع عنهما لباسهما} إنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأن نزع لباسهما كان بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: كان لباس آدم وحواء نوراً، وقال مجاهد: كان لباسهما التقى. وفي رواية عنه التقوى وقيل إن لباسهما من ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس {ليريهما سواءتهما} يعني: ليرى آدم عورة حواء وترى عورة آدم وكان قبل ذلك لا يرى بعضهم سوءة بعض {إنه يراكم هو وقبيله} يعني أن إبيلس يراكم يا بني آدم هو وقبيله إنما أعاد الكناية في قوله هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضاً، وقال الليث: كل جيل من جن أو إنس قبيل ومعنى يراكم هو وقبيله أي من هو من نسله، وحكى أبو عبيدة عن أبي يزيد القبيل: ثلاثة فصاعداً من قوم شتى والجمع قبل والقبيلة بنو أب واحد. وقال الطبري: قبيله يعني صنفه وجيله الذي هو منهم وهو واحد يجمع على قبل وهم الجن. وقال مجاهد: الجن والشياطين وقال ابن يزيد: قبيله نسله. وقال ابن عباس رضي عنهما: هو ولده وقوله {من حيث لا ترونهم} يعني أنتم يا بني آدم، قال العلماء رحمهم الله: إن الله تعالى خلق في عيون الجن إدراكاً يرون بذلك الإدراك الإنس ولم يخلق في عيون الإنس هذا الإدراك فلم يروا الجن. وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن ورقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضاً أن الله تعالى قوى شعاع أبصار الجن وزاد فيها حتى يرى بعضهم بعضاً ولو جعل في أبصارنا هذه القوة لرأيناهم ولكن لم يجعلها. وحكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى» كما قال تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس} فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وقال مجاهد: قال إبليس جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى. وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إن عدواً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى {إنا جعلنا الشياطين أولياء} يعني أعواناً وقرباء {للذين لا يؤمنون} قال الزجاج يعني سلَّطانهم عليهم يزيدون في غيهم. قوله عز وجل: {وإذا فعلوا فاحشة} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: هي طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء. وقال عطاء: هي الشرك والفاحشة اسم لكل قبيح فيدخل فيه جميع المعاصي والكبائر فيمكن حملها على الإطلاق وإن كان السبب مخصوصاً بما ورد من طوافهم عراة ولما كانت هذه الأفعال التي كانت أهل الجاهلية يفعلونها ويعتقدون أنها طاعات وهي في نفسها فواحش ذمهم الله تعالى عليها ونهاهم عنها فاحتجوا عن هذه الأفعال بما أخبر الله عنهم وهو قوله تعالى: {قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} فذكروا لأنفسهم عذرين أحدهما محض التقليد وهو قولهم وجدنا على هذا الفعل آباءنا وهذا التقليد باطل لأنه لا أصل له، والعذر الثاني قولهم والله أمرنا بها وهذا العذر أيضاً باطل وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} والمعنى أن هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها هي في أنفسها قبيحة منكرة فكيف يأمر الله تعالى بها والله لا يأمر بالفحشاء بل يأمر بما فيه مصالح العباد ثم قال تعالى رداً عليهم {أتقولون على الله ما لا تعلمون} يعني انكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ أوامره ونواهيه وأحكامه لأنكم تنكرون نبوّة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون.
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} قوله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط} أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون على الله ما لا يعلمون أمر ربي بالقسط يعني بالعدل، وهذا قول مجاهد والسدي. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بلا إله إلا الله فالأمر بالقسط في هذه الآية يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله وأنه واحد لا شريك له {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} فإن قلت قل أمر ربي بالقسط خبر وقوله وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز فما معناه. قلت: فيه إضمار وحذف تقديره قل أمر ربي بالقسط وقال {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} فحذف فقال لدلالة الكلام عليه ومعنى الآية قول مجاهد والسدي: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة، وقال الضحاك: معناه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي أو في مسجد قومي. وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصاً {وادعوه مخلصين له الدين} أي واعبدوه مخلصين العبادة والطاعة والدعاء لله عز وجل لا لغيره {كما بدأكم تعودون} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله عز وجل بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً وحجة هذا القول قوله في سياق الآية {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} فإنه كالتفسير له ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يُبعث كل عبد على ما مات عليه» أخرجه مسلم زاد البغوي في روايته: المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وقال محمد بن كعب: من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة. ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل الشقاوة كما أن السحرة كان يعملون بعمل أهل الشقاوة ثم صاروا إلى السعادة ويصح هذا القول ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة» أخرجه مسلم وقال الحسن ومجاهد في معنى الآية كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً فأحياكم ثم يميتكم كذلك تعودون أحياء يوم القيامة ويشهد لمصلحة هذا القول ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين» أخرجه البخاري ومسلم وقوله تعالى: {فريقاً هدى} يعني هداهم إلى الإيمان به ومعرفته ووفقهم لطاعته وعبادته {وفريقاً حق عليهم الضلالة} يعني وخذل فريقاً حتى وجبت عليهم الضلالة للسابقة التي سبقت لهم في الأزل بأنهم أشقياء وفيه دليل على أن الهدى والضلالة من الله عز وجل، ولما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص روى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل» أخرجه الترمذي. وقوله تعالى: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} يعني أن الفريق الذي حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين نصراء وأعواناً أطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر والمعاصي والمعنى أن الداعي الذي دعاهم إلى الكفر والمعاصي هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله لأن الشياطين لا يقدرون على إضلال أحد. وقوله {ويحسبون أنهم مهتدون} يعني أنهم مع ضلالتهم يظنون ويحسبون أنهم على هداية وحق وفيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء.
{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} قوله عز وجل: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافاً تجعله على فرجها وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية {خذوا زينتكم عند كل مسجد} أخرجه مسلم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:» كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل «وذكر الحديث زاد في رواية أخرى عنه فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. وقال مجاهد: كان حي من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجاً أو معتمراً يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول من يعيرني مئزراً فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون خذوا زينتكم عند كل مسجد. وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس وهم قريش وأحلافهم فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عرياناً وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها أي جعلها حراماً عليه فلذلك قال الله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد، والمراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة. وقال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد كطواف وصلاة وقوله تعالى: خذوا زينتكم، أمر وظاهره الوجوب وفيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة والطاواف وفي كل حال. وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا} قال الكلبي كانت بنوا عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل وكلوا واشربوا يعني الدسم واللحم {ولا تسرفوا} يعني بتحريم ما لم يحرمه الله من أكل اللحم والدسم، قال ابن عباس رضي الله عنهما:» كل ما شئت واشر ب ما شئت والبس ما شئت ما أخطأ بك خصلتان سرف ومخيلة «وقال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وفي الآية دليل على أن جميع المطعومات والمشروبات حلال إلا ما خصه الشرع دليل في التحريم لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشارع وثبت تحريمه بدليل منفصل {إنه لا يحب المسرفين} يعني أن الله تعالى لا يحب من إسراف المأكول والمشروب والملبوس وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة الله تعالى عبارة عن رضاه عن العبد وأيضاً. وإيصال الثواب إليه وإلا لم يحبه علم أنه تعالى ليس هو راض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} يعني قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة من حرم عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزينوا بها وتلبسوها في الطواف وغيره ثم في تفسير الزينة قولان: أحدهما: وهو قول جمهور المفسرين أن المراد من الزينة هنا اللباس الذي يستر العورة. والقول الثاني: ذكر الإمام فخر الدين الرازي أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس والحلي، ولولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم ولكن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال دون النساء {والطيبات من الرزق} يعني ومن حرم الطيبات من الرزق التي أخرجها الله لعباده وخلقها لهم ثم ذكروا في معنى الطيبات في هذه الآية أقوالاً: أحدها أن المراد بالطيبات اللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم فرد الله تعالى بقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}. القول الثاني: وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة: أن المراد بذلك ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب. قال ابن عباس رضي الله عنهما إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله تعالى من الرزق وغيرها وهو قول الله تعالى: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً وهو هذا وأنزل الله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. والقول الثالث: إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه وورد نص بتحريمه {قل هي للذين آمنوا} يعني قل يا محمد إن الطيبات التي أخرج من رزقه للذين آمنوا {في الحياة الدنيا} غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون {خالصة} لهم {يوم القيامة} يعني لا يشركهم فيها أحد لأنه لا حظ للمشركين يوم القيامة في الطيبات من الرزق، وقيل: خالصة لهم يوم القيامة من التكدير والتنغيص والغم لأنه قد يقع لهم في الحياة الدنيا في تناول الطيبات من الرزق كدر وتنغيص فأعلمهم أنها خالصة لهم في الآخرة من ذلك كله {كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} يعني كذلك نبين الحلال مما أحللت والحرام مما حرمت لقوم علموا إني أنا الله وحدي لا شريك في فأحلّوا حلالي وحرّموا حرامي. قوله عز وجل: {قل إنما حرم ربي الفواحش} جمع فاحشة وهي ما قبح وفحش من قول أو فعل، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من الثياب ويطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات مما أحل الله لهم إن الله لم يحرم ما تحرمونه أنتم بل أحله الله لعباده وطيبه لهم وإنما حرم ربي الفواحش من الأفعال والأقوال {ما ظهر منها وما بطن} يعني علانتيه وسره (ق). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا أحد أغير من الله» من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه. أصل الغيرة ثوران القلب وهيجان الحفيظة بسبب المشاركة فيما يختص به الإنسان ومنه غيرة أحد الزوجين على الآخر لاختصاص كل واحد منهما بصاحبه ولا يرضى أن يشاركه أحد فيه فلذلك يذب عنه ويمنعه من غيره وأما الغيرة في وصف الله تعالى فهو منعه من ذلك وتحريمه له ويدل على ذلك قوله: ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وقد يحتمل أن تكون غيرته تغيير حال فاعل ذلك بعقاب والله أعلم. وقوله تعالى: {والإثم} يعني وحرم الإثم واختلفوا في الفرق بين الفاحشة والإثم فقيل الفواحش الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها وتزايدَ والإثم عبارة عن الصغائر من الذنوب فعلى هذا يكون معنى الآية: قل إنما حرم ربي الكبائر والصغائر. وقيل الفاحشة اسم لما يجب فيه الحد من الذنوب والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، وهذا القول قريب من الأول واعترض على هذين القولين بأن الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر والصغائر، وقيل: إن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً والفائدة فيه أن يقال لما حرم الله الكبيرة بقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش} أردفه بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم متوهم أن التحريم مقصور على الكبائر فقط وقيل أن الفاحشة وإن كانت بحسب اللغة اسماً لكل ما تفاحش من قول أو فعل لكنه قد صار في العرف مخصوصاً بالزنا لأنه إذا أطلق لفظ الفاحشة لم يفهم منه إلا ذاك نوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا وأما الإثم فقد قيل إنه اسم من أسماء الخمر وهو قول الحسن وعطاء. قال الجوهري وقد تسمى الخمر إثماً واستدل عليه بقول الشاعر: شربتُ الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم يذهب بالعقول وقال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال لإن العرب ما سمته إثماً قط في جاهلية ولا في إسلام ولكن قد يكون الخمر داخلاً تحت الإثم لقوله: قل فيهما إثم كبير. وقوله تعالى: {والبغي} أي وحرم البغي {بغير الحق} والبغي هو الظلم والكبر والاستطالة على الناس ومجاوزة الحد في ذلك كله ومعنى البغي بغير الحق هو أن يطلب ما ليس له بحق فإذا طلب ما له بحق خرج من أن يكون بغياً {وأن تشركوا} أي وحرم أن تشركوا {بالله ما لم ينزل به سلطاناً} هذا فيه تهكم بالمشركين والكفار لأنه لا يجوز أن ينزل حجة وبرهاناً بأن يشرك به غيره لأن الإقرار بشيء ليس على ثبوته حجة ولا برهاناً ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والبينة على صحة القول بالشرك وجب أن يكون باطلاً على الإطلاق فإن قلت البغي والإشراك داخلان تحت الفاحشة والإثم لأن الشرك من أعظم الفواحش وأعظم الإثم وكذا البغي أيضاً من الفواحش والإثم. قلت: إنما أفردهما بالذكر للتنبيه على عظم قبحهما أنه قال من الفواحش المحرمة البغي والشرك فكأنه بين جملته ثم تفصيله وقوله {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} تقدم تفسيره.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)} قوله تعالى: {ولكل أمة أجل} الأجل: الوقت المؤقت لانقضاء وقت المهلة ثم في هذا الأجل المذكور في الآية قولان: أحدهما أنه أجل العذاب والمعنى أن لكل أمة كذبت رسله وقتاً معيناً وأجلاً مسمى أمهلهم الله إلى ذلك الوقت {فإذا جاء أجلهم} يعنيك إذا حلَّ وقت عذابهم {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} يعني فلا يؤخرون ولا يمهلون قدر ساعة ولا أقل من ساعة وإنما ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الوقت في العرف وهذا حين سألوا نزول العذاب فأخبرهم الله تعالى أن لهم وقتاً إذا جاء ذلك الوقت هو وقت إهلاكهم واستئصالهم فلا يؤخرون عنه ساعة ولا يستقدمون. والقول الثاني: إن المراد بهذا الأجل هو أجل الحياة والعمر، فإذا انقضى ذلك الأجل وحضر الموت فلا يؤخر ساعة ولا يقدم ساعة وعلى هذا القول يلزم أن يكون لكل واحد أجل لا يقع فيه تقديم ولا تأخير وإنما قال تعالى: لكل أمة تقارب أعمار أهل كل عصر فكأنهم كالواحد في مقدار العمر: وعلى هذا القول أيضاً يكون المقتول ميتاً بأجله خلافاً لمن يقول القاتل قطع عليه أجله. قوله عز وجل: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} هي إن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء، وهو قوله فمن اتقى وأصلح يعني منكم وإنما قال رسل بلفظ الجمع وإن كان المراد به واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء وهو مرسل إلى كافة الخلق فذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم فعلى هذا يكون الخطاب في قوله يا بني آجم لأهل مكة ومن يلحق بهم. وقيل: أراد جميع الرسل وعلى هذا فالخطاب في قوله يا بني آدم عام في كل بني آدم وإنما قال منكم يعني من جنسكم ومثلكم من بني آدم لأن الرسول إذا كان من جنسهم كان أقطع لعذرهم وأثبت للحجة عليهم لأنهم يعرفونه ويعرفون أحواله فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته أو بقدرة أمثاله علم أن ذلك الذي أتى به معجزة له وحجة على من خالفه {يقصون عليكم آياتي} يعني يقرؤون عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي {فمن اتقى} يعني فمن اتقى الشرك ومخالفة رسلي {وأصلح} يعني العمل الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيته عنه {فلا خوف عليهم} يعني حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب {ولا هم يحزنون} يعني على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها {والذين كذبوا بآياتنا} يعني ومن جحدوا آياتنا وكذبوا رسلنا {واستكبروا عنها} يعني واستكبروا عن الإيمان بها وما جاءت به رسلنا {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} يعني لا يخرجون منها أبداً. قوله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} يعني فمن أعظم ظلماً ممن يقول على الله ما لم يقله أو يجعل له شريكاً من خلقه وهو منزه عن الشريك والولد {أو كذب بآياته} يعني أو كذب بالقرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} يعني ينالهم حظهم مما قدر لهم وكتب في اللوح المحفوظ واختلفوا في ذلك النصيب على قولين أحدهما: أن المراد به هو العذاب المعين لهم في الكتاب ثم اختلفوا فيه، فقال الحسن والسدي: ما كتب لهم من العذاب وقضي عليهم من سواد الوجوه ورزقه العيون، وقال ابن عباس: في رواية عنه كتب لمن يفتري على الله كذباً أن وجهه أسود، وقال الزجاج: هو المذكور في قوله فأنذرتكم ناراً تلظى وفي قوله إذ الأغلال في أعناقهم فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم. والقول الثاني: إن المراد بالنصيب المذكور في الكتاب هو شيء سوى العذاب ثم اختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى عنه وعن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية، في قوله: ينالهم نصيبهم من الكتاب، قالوا: هو السعادة والشقاوة، وقال ابن عباس: ما كتب عليهم من الأعمال، وقال في رواية أخرى عنه: من عمل خيراً جوزي به ومن عمل شراً جوزي به. وقال قتادة: جزاء أعمالهم التي عملوها. وقيل معنى ذلك ينالهم نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر قاله مجاهد والضحاك، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، وقال الربيع بن أنس: ينالهم ما كتب لهم في الكتاب من الرزق، وقال محمد بن كعب القرظي: عمله ورزقه وعمره. وقال ابن زيد: ينالهم نصيبهم من الكتاب من الأعمال والأرزاق والأعمار فإذا فرغ هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وصحح الطبري هذا القول الآخر وقال: لأن الله تعالى أتبع ذلك بقوله حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم فأبان أن الذي ينالهم هو ما قدر لهم في الدنيا فإذا فرغ توفتهم رسل ربهم. قال الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى: إنما حصل الاختلاف لأن لفظ النصيب محتمل لكل الوجوه. وقال بعض المحققين: حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بيَّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم فإنه ليس بمانع أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلاً من الله سبحانه وتعالى لكي يصلحوا ويتوبوا. قوله تعالى: {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} يعني حتى إذا جاءت هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب رسلنا يعني ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى {قالوا} يعني: قال الرسل وهم الملائكة للكفار {أين ما كنتم تدعون من دون الله} وهذا سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت لا سؤال استعلام والمعنى أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم. وقيل إن هذا يكون في الآخرة والمعنى حتى إذا جاءتهم رسلنا يعني ملائكة العذاب يتوفونهم يعني يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار قالوا أينما كنتم تدعون يعني شركاء وأولياء تعبدونهم من دون الله فادعوهم ليدفعوا عنكم ما جاءكم من أمر الله {قالوا} يعني الكفار مجيبين للرسل {ضلوا عنا} يعني بطلوا وذهبوا عنا وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} يقول الله تعالى وشهد هؤلاء الكفار عند معاينة العذاب أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله واعترفوا على أنفسهم بذلك.
{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)} قوله عز وجل: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس} يقول الله عز وجل يوم القيامة لمن افترى عليه الكذب وجعل له شريكاً من خلقه: ادخلوا في أمم يعني في جملة أمم قد خلت يعني قد مضت وسلفت وإنما قال قد خلت ولم يقل قد خلوا لأنه أطلق الضمير على الجماعة يعني في جملة جماعة قد خلت من قبلكم يعني من الجن والإنس {في النار} أي ادخلوا جميعاً في النار التي هي مستقركم ومأواكم وإنما عنى بالأمم والجماعات والأحزاب وأهل الملل الكافرة من الجن والإنس {كلما دخلت أمة} يعني كلما دخلت جماعة النار {لعنت أختها} يعني كلما دخلت أمة النار لعنت أختها من أهل ملتها في الدين لا في النسب. قال السدي: دخلت أهل ملة النار لعنوا أصحابهم على ذلك الدين فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والصابئون الصابئين والمجوس المجوس تلعن الآخرة الأولى {حتى إذا اداركوا} يعني تداركوا وتلاحقوا {فيها جميعاً} يعني تلاحقوا واجتمعوا في النار جميعاً وأدرك بعضهم بعضاً واستقروا في النار {قالت أخراهم لأولاهم} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني قال آخر كل أمة لأولها، وقال السدي: قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين، وقال مقاتل: يعني قال أخراهم دخولاً النار وهم الأتباع لأولاهم دخولاً وهم القادة لأن القادة يدخلون النار أولاً {ربنا هؤلاء أضلونا} يعني: تقول الأتباع ربنا هؤلاء القادة والرؤساء أضلونا عن الهدى وزينوا لنا طاعة الشيطان، وقيل: إنما قال المتأخرون ذلك لأنهم كانوا يعتقدون تعظيم المتقدمين من أسلافهم فسلكوا سبيلهم في الضلالة واتبعوا طريقهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلالة فلما كان يوم القيامة وتبين لهم فساد ما كانوا عليه قالوا ربنا هؤلاء أضلونا لأنا اتبعنا سبيلهم {فآتهم عذاباً ضعفاً من النار} أي أضعف عليهم العذاب، قال أبو عبيدة: الضعف هو مثل الشيء مرة واحدة، قال الأزهري والذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم وأما كتاب الله فهو عربي مبين فيرد تفسيره إلى موضع كلام العرب والضعف في كلامهم ما زاد وليس بمقصور على مثلين وجائز في كلام العرب هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله فأقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور وقال الزجاج في تفسير هذه الآية: فآتهم عذاباً ضعفاُ أي مضاعفاً لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما المثل والآخر أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته {قال} يعني قال الله تعالى: {لكل ضعف} يعني لأولاكم ضعف ولآخراكم ضعف وقيل معناه للتابع ضعف وللمتبوع ضعف لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعاً {ولكن لا تعلمون} يعني ما أعد الله لك فريق من العذاب وقرئ بالياء ومعناه ولكن لا يعلم كل فريق ما أعد الله تعالى من العذاب للفريق الآخر {وقالت أولاهم} يعني في الكفر وهم القادة {لأخراهم} يعني الأتباع {فما كان لكم علينا من فضل} يعني قد ضللتم كما ضللنا وكفرتم كما كفرنا وقيل في معنى الآية وقالت كل أمة سلفت في الدنيا لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم فسلكوا سبيل من مضى قبلهم فما كان لكم علينا من فضل وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله بسبب كفرنا ومعصيتنا إياه وجاءتكم بذلك الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم {فذوقوا العذاب} وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة للاتباع والأمة الأولى للأخرى التي بعدها ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى يعني يقول الله للجميع فذوقوا العذاب {بما كنتم تكسبون} يعني بسب ما كنتم تكسبون من الكفر والأعمال الخبيثة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} قوله عز وجل: {إن الذين كذبوا بآياتنا} يعني كذبوا بدلائل التوحيد فلم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا {واستكبروا عنها} أي وتكبروا عن الإيمان بها والتصديق لها وأنفوا عن اتباعها والانقياد لها والعمل بمقتضاها تكبراً {لا تفتح لهم أبواب السماء} يعني لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة وإنما يصعد إلى الله تعالى الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار وتفتح لأرواح المؤمنين. وفي رواية عن ابن عباس أيضاً قال: لا يصعد لهم قول ولا عمل، وقال ابن جريج: لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم. وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة قال فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى به في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» وقيل في معنى الآية: لا تنزل عليهم البركة والخير لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء. وقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} والولوج الدخول والجمل معروف وهو الذكر من الإبل وسم الخياط ثقب الإبرة قال الفراء: الخياط والمخيط ما يخاط به والمراد به الإبرة في هذه الآية وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسماً عند العرب قال الشاعر: جسم الجِمال وأحلام العصافير *** وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل فجسم الجمل من أعظم الأجسام وثقب الإبرة من أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالاً فكذلك دخول الكفار الجنة محال ولما وصف الله دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان وقوع الشرط محالاً ثبت أن الموقوف على المحال محال فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعاً. وقال بعض أهل المعاني: لما علق الله تعالى دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفياً لدخولهم الجنة على التأبيد وذلك لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز وهذا كقولك: لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر: إذا شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب قوله تعالى: {وكذلك نجزي المجرمين} أي ومثل الذي وصفنا نجزي المجرمين يعني: الكافرين لأنه تقدم من صفتهم أنهم كذبوا بآيات الله واستكبرواعنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار ولما بين الله عز وجل أن الكفار لا يدخلون الجنة أبداً بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعد لهم فيها فقال تعالى: {لهم من جهنم مهاد} يعني لهم من نار جهنم فراش وأصل المهاد التمهيد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالفراش والبساط {ومن فوقهم غواش} جمع غاشية وهي الغطاء كاللحاف ونحوه ومعنى الآية أن الناس محيطة بهم من تحتهم ومن فوقهم، قال محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي: المهاد الفراش والغواشي اللحف {وكذلك نجزي الظالمين} يعني وكذلك نكافئ ونجازي المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها} لما ذكر الله تعالى وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعد لهم في الآخرة فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني والذين والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحي الله إليه وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفساً إلا وسعها يعني لا نكلف نفساً إلا ما يسعها من الأعمال وما يسهل عليها ويدخل في طوقها وقدرتها وما لا حرج فيه عليها ولا ضيق. قال الزجاج: الوسع ما يُقدر عليه، وقال مجاهد: معناه إلا ما افترض عليها يعني الذي افترض عليها من وسعها الذي تقدر عليه ولا تعجز عنه وقد غلط من قال إن الوسع بذل المجهود قال أكثر أصحاب المعاني إن قوله تعالى لا نكلف نفساً إلا وسعها اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} لا نكلف نفساً إلا وسعها وإنما يحسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه جنس هذا الكلام لأنه تعالى لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ومحلها يُتَوصل إليها بالعمل الصالح السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة. وقال قوم من أصحاب المعاني هو من تمام الخبر موضعه رفع والعائد محذوف كأنه قال لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها فحذف العائد للعلم به. قوله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} يعني وقلعنا وأخرجنا ما في صدور المؤمنين من غش وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا ومعنى الآية أزلنا تلك الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخواناً على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضاً على شيء خص الله به بعضهم دون بعض ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ودفعها عن أن ترد على القلب روي عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين} وروي عنه أيضاً أنه قال إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} وقيل إن الحسد والغل يزول بدخولهم الجنة (خ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخلص المؤمنون من النار يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن الله لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا» وقال السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحدهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبداً. وقيل إن درجات أهل الجنة متفاوتة في العلو والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض وأخرج الله عز وجل الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب العالية، وأورد على هذا القول كيف يعقل أن الإنسان يرى الدرجات العالية والنعم العظيمة وهو محبوس عنها لا يصل إليها ولا يميل بطبعه إليها ولا يغتم بسبب حرمانه منها وإن كان في لذة ونعيم وأجيب عن هذا بأن الله تعالى قد وعد بإزالة الحقد والحسد من قلوب أهل الجنة حتى تكمل لهم اللذة والسرور حتى إن أحدهم لا يرى نفسه إلا في كمال وزيادة في النعيم الذي هو فيه فيرضى بما هو فيه ولا يحسد أحداً أبداً وبهذا تم نعيمه ولذته وكمل سروره وبهجته. وقوله تعالى: {تجري من تحتهم الأنهار} لما أخر الله تعالى بما أنعم به على أهل الجنة من إزالة الغل والحسد والحقد من صدورم أخبرنا بما أنعم به عليهم من اللذات والخيرات والمسرات {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا} يعني أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا رحمة منه وإحساناً وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} يعني وما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أنه أرشدنا الله إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله ومن لم يهده الله فليس بمهتد {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} يعني أن أهل النعيم إذا دخلوها ورأوا ما أعد الله لهم فيها من النعيم قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق يعني أنهم رأوا ما وعدهم به الرسل عياناً {ونودوا أن تلكم الجنة} يعني: ونادى منادي أهل الجنة إن هذه الجنة التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا واختلفوا في المنادى فقيل هو الله عز وجل وقيل الملائكة ينادون بأمر الله عز وجل وقيل هذا النداء يكون في الجنة (م). عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» وقوله تعالى: {أورثتموها بما كنتم تعلمون} روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة» زاد في رواية فذلك قوله تعالى: {أورثتموها بما كنتم تعملون} قال بعضهم لما سمى الله الكافر ميتاً بقوله أموات غير أحياء وسمى المؤمن حياً بقوله: لينذر من كان حياً وفي الشرع أن الأحياء يرثون الأموات فقال أورثتموها يعني أن المؤمن حي وهو يرث الكافر منزله من الجنة لأنه في حكم الميت. وقيل معناه أن أمرهم يؤول إلى الجنة كما أن الميراث يؤول إلى الوارث، وقيل: أورثتموها عن الأعمال الصالحة التي عملتموها لأن الجنة جعلت لهم جزاء وثواباً على الأعمال ويعارض هذا القول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله» فإن دخول الجنة برحمة الله وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وقيل إن العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله تعالى وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله تعالى وجعلها الله ثواباً وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا والله أعلم.
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)} قوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} يعني ونادى أهل الجنة أهل النار وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار تقول أهل الجنة يا أهل النار {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً} يعني ما وعدنا في الدنيا على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به وبرسله وطاعته حقاً {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً} يعني من العذاب على الكفر {قالوا نعم} يعني قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة نعم وجدنا ذلك حقاً. فإن قلت: هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض؟ قلت: ظاهر قوله ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار يفيد العموم والجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا. فإن قلت: إذا كانت الجنة في السماء والنار في الأرض فكيف يمكن أن يبلغ هذا النداء أو كيف يصح أن يقع. قلت: إن الله تعالى قادر على أن يقوي الأصوات والأسماء فيصير البعيد كالقريب. وقوله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم} يعني نادى مناد وأعلم لأن أصل الأذان في اللغة الإعلام. والمعنى نادى مناد أسمع الفريقين وهذا المنادي من الملائكة وقيل إنه إسرافيل صاحب الصور ذكره للواحدي {أن لعنة الله على الظالمين} يعني يقول المؤذن إن لعنة الله على الظالمين ثم فسر الظالمين من هم.
|